معجزة الصلاة في الوقاية من مرض دوالي الساقين

الأربعاء، 25 يونيو 2014 | 0 التعليقات

 هذا البحث هو أول بحث طبي يربط بين الصلاة كتشريع إسلامي وبين الوقاية من مرض دوالي الساقين، بل إنه كذلك أول بحث يربط بين الدوالي والتمرينات العضلية الخفيفة على مستوى العالم من خلال دراسة أجراها الباحث على 20 حالة مصابة بدوالي الساقين و10 حالات غير مصابة كما قام بقياس الضغط الوريدي على ظاهر القدم في 15 حالة غير مصابة وقد أثبت الباحث تأثير الصلاة في الوقاية من مرض دوالي الساقين. وقد حصل هذا البحث على درجة الماجستير بتقدير ممتاز 100% من كلية الطب قسم الجراحة العامة جامعة الإسكندرية.
معجزة الصلاة في الوقاية من مرض دوالي الساقين
د. توفيق علوان
دوالي الساقين:
إن دوالي الساقين هو خلل شائع في أوردة الساقين، يتمثل في ظهور أوردة غليظة ومتعرجة وممتلئة بالدماء المتغيرة اللون على طول الطرفين السفليين، ومن المؤلم أنها تصيب ما يقرب من عشرة إلى عشرين بالمائة من الجنس البشري. ولقد تعارف العلماء على تصنيف دوالي الساقين إلى ضربين، دوالي ابتدائية ودوالي ثانوية، فأما السبب الحقيقي للدوالي الابتدائية فلم يزل بعد لغزاً غامضاً، ولذا فلقد تنازع مشاهير الجراحة في نظريتين، تشير الأولى منهما بإصبع الاتهام إلى الصمامات داخل الأوردة، حيث يؤدي خللها وعدم إحكامها إلى حدوث الدوالي مباشرة، ولقد أيد هؤلاء العلماء نظريتهم بحجة دامغة، ألا وهي حدوث تلف الصمامات في كل حالة من حالات دوالي الساقين.

لقد كانت نظرية هؤلاء غاية في البساطة إذ قرروا أن تلف الصمام يؤدي إلى زيادة مؤثرة في الضغط على جدران الوريد، ينتقل إلى الرقعة المجاورة إلى أسفل، مما يؤدي إلى انهيار مقاومة الجدار وتمدده، وبعد فترة زمنية طالت أو قصرت نجد أنفسنا أمام صورة تامة ومتكاملة لدوالي الساقين. 
وبرغم تتابع الحجج والبراهين على تلك النظرية، فإنها لم تسلم من النقد والتجريح إلى حد إبطالها بالكلية من أولئك الذي تبنوا النظرية المضادة لها والمعتمدة رأساً على افتراض ضعف أصيل ومؤثر كامن في جدر الأوردة المؤهلة للإصابة بالدوالي، مما يجعل الوريد معتمداً في مواجهة الضغوط المتزايدة للدماء المندفعة داخله على قوة الطبقة النسيجية الحافظة من فوقه وعلى مدى سلامة المضخة الوريدية.

هذا عن الدوالي الابتدائية، أما عن الدوالي الثانوية فربما ترتبت على عوامل كثيرة، كالجلطة الوريدية العميقة التي تؤثر مباشرة على قدرة الصمامات على الإحكام، فإذا بها وقد فقدت وظيفتها تماماً، وهكذا تنتقل الضغوط القوية في الأوردة العميقة حال التمرينات العضلية للساقين وبنفس قوتها عبر الصمامات التالفة إلى الطاق
م الوريدي السطحي ذو الحماية الهزيلة، فتنهار جدرانه وتتمدد إلى الصورة النموذجية لدوالي الساقين.

مناقشة حول النتائج الإسلامية لهذا البحث:
لما روجعت البيانات الصادرة عن الحاسوب ( الكمبيوتر )، تبين أنها خالية تماماً من أية ورقة علمية تتناول تلك العلاقة المدهشة بين الصلاة ودوالي الساقين. 
وليس هذا فحسب بل إن أية دراسة بين الدوالي والتمرينات العضلية الخفيفة، لم تجر قط من قبل، ومن أية جهة علمية عالمية.

ولقد قرر " دافيد كرستوفر" 1981م، أن الضغوط الواقعة على أوردة الطرفين السفليين، وفي أية نقطة منها، ما هي إلا محصلة لثلاثة أنماط من الضغوط المنفردة ألا وهي:
·الضغط الناجم عن قوة الدفع المترتبة على ضخ عضلة القلب.
·الضغط الواقع بتأثير الجاذبية الأرضية إلى أسفل وهو على قدر من الأهمية، يرجع إلى الوضع المنتصب للإنسان، ومن هنا كانت أية نقطة في الجهاز الوريدي تقع تحت مستوى الأذين الأيمن للقلب معرضة إلى ضغط إيجابي يعادل طول المسافة بين تلك النقطة وبين الأذين الأيمن، بحسب القوانين الطبيعية الحاكمة على تلك المسألة.

·الضغط الناتج عن التغييرات الانتقالية المؤقتة، وهذا الأخير ينشأ ابتداءاً من عدة مصادر، فمثلاً هناك تغييرات مركزية تنشئها تلك الموجات المتعاقبة كرد فعل لعمل القلب، كذا تلك الموجات المكافئة للتغيرات المنظمة في الضغط داخل القفص الصدري كنتيجة لعمل الرئتين تمدداً وانكماشاً. أضف إلى ذلك تغير الضغوط بالأوردة بناء على عمل الانقباضات المتتابعة لعضلات الطرفين السفليين. لما كانت الأوردة السطحية بالطرف السفلي، توشك أن تقف منتصبة من أسفل إلى أعلى دونما تقوية أو إعانة، ولما كان الوريد الصافن الأكبر بالذات هو أطول الأوردة بالجسد الإنساني أجمع، فببساطة تامة يمكن التأكد من أن أشد أنواع الضغوط الواقعة عليه إنما يرجع إلى ضغط الجاذبية الأرضية الفاعل بصورة عكسية لسريان الدم الوريدي.
ولذا فقد صار معلوماً بين العلماء أن دوالي الساقين ما هي إلا خاصية من خصائص الوضع المنتصب للإنسان، حيث ثبت أنه لا يوجد أي نوع من أنواع الحيوانات الأخرى على الأرض تعاني من هذه النازلة.

وهناك إجماع على أن الضغط على ظاهر القدم حال الوقوف يتراوح بين (90-120سم/ماء) ولأجل هذا يبرز الدور البالغ الأهمية للمضخة العضلية الوريدية، حيث ينخفض هذا الضغط تحت الإيقاع المنظم للانقباض والاسترخاء المتتابع لعضلات الطرفين السفليين أثناء المشي مثلاً، فإذا بالقيمة وقد بلغت ( 20مليمتر/زئبق) عند مفصل الكعب عقب فترة وجيزة من تحريك الطرفين السفليين. 

إن هذه المضخة العجيبة لا تقتصر في نشاطها على هذا الدور الحيوي، بل إنها تتجاوزه إلى تخفيض تراكمات السوائل داخل الأنسجة. تلك التي تؤدي الساقين وبصورة مؤلمة مع طول فترات الوقوف دون أدنى حركة نتيجة لتضاعف الضغط الواقع على الأوردة.
لقد قرر العلماء أن أهم عنصرين رئيسيين ضالعين في تدمير الوردة السطحية وإبراز دوالي الساقين هما: -
العنصر الأول: هو تركيز أعلى قيمة للضغط على جدارات الأوردة السطحية للطرفين السفليين عن طريق الوقوف بلا رحمة ولفترات طويلة.

العنصر الثاني: أن الوريد السطحي المؤهل للإصابة بالدوالي، إنما يكون واقعاً من البداية تحت تأثير مرض عام في الأنسجة الرابطة، يؤدي بدوره إلى إضعاف جدرانه إلى مستوى أقل من نظيره الطبيعي.
والآن يبدو ظاهراً أنه بتكاتف هذين العنصرين معاً في شخص ما تكون النتيجة الحتمية هي إصابته بدوالي الساقين. 
علاقة الصلاة بالدوالي:
أما عن تلك المعضلة، فإنه بالملاحظة الدقيقة للحركات المتباينة للصلاة وجدت أنها تتميز بقدر عجيب من الانسيابية والانسجام والمرونة والتعاون، وأعجب أمر أنه بالقياس العلمي الدقيق للضغط الواقع على جدار الوريد الصافن عند مفصل الكعب، كان الانخفاض الهائل لهذا الضغط أثناء إقامة الصلاة مثيراً للدهشة وملفتاً للنظر، فعند المقارنة ما بين متوسط الضغط الواقع على ظاهر القدم حال الوقوف، ونظيره حال الركوع وجد الأول وقد بلغ ما قيمته ( 93.07سم/ماء)، فيما كان الثاني (49.13سم/ماء) فقط، وكما هو ظاهر فإن النسبة لا تزيد إلا يسيراً عن نصف الضعف الواقع على جدران تلك الأوردة الضعيفة، أما متوسط الضغط عند السجود الأول فكان ناطقاً، إذ بلغ فقط (3سم/ماء) وغني عن البيان أن انخفاضه لهذا المستوى، ليس إلا راحة تامة للوريد الصارخ من ضغطه القاسي طوال فترة الوقوف.

أما عند السجود الثاني فكانت القيمة (1.33سم/ماء)، وفي عملية مقصودة لإخلاء الوريد من مزيد من الدماء كي تتحقق بذلك أكمل درجات الاستقرار لهذه الجدران المنهكة تحت الآثار المؤلمة للضغوط عليها، وهذا التغير في الضغط انخفاضاً بين السجود الأول والسجود الثاني، وإن كان ليس بذي دلالة علمية مؤثرة إلا أنه ربما يكون نتيجة لعملية سحب الدماء من الطاقم السطحي للأوردة إلى الطاقم الأعمق كما قدر ذلك بعض العلماء، خصوصاً إذا علمنا أنه بين كل سجدتين يستقر المرء جالساً في اطمئنان وهدوء.
 
وما دمنا قد ذكرنا جلوس الصلاة فقد وجدنا أن متوسط الضغط الوريدي عنده وقد انخفض إلى ما قيمته فقط (16.73سم/ماء) في تعبير بليغ عن أوضح الدلالات العلمية.

وفي محاولة طريفة لاستبعاد الوقوف تماماً من حركات الصلاة، وحساب متوسط الضغوط الأخرى (ركوع، سجود، جلوس) كانت النتيجة معبرة تماماً حيث وجدت المحصلة (17.55سم/ماء) وهكذا لا تكاد الضغوط في كل ركعة على جدران الأوردة تبلغ 19% فقط من قيمة الضغط أثناء الوقوف.
والحاصل أن الصلاة بحركاتها المتميزة تؤدي إلى أقصى تخفيض لضغط الدم على جدران الوريد الصافن مرتين، الأولى: بذات الأوضاع المؤدية إلى تناقص الضغط حسب معادلة " برنولي" الثانية: بتنشيط المضخة الوريدية الجانبية مما يؤدي إلى تخفيض إضافي للضغوط المذكورة.

أما التأثير الثالث والبالغ الغربة للصلاة فهو يرجع إلى ما يبدو إن الصلاة تؤدي إلى تنشيط للقدرات البنائية لمادة الكولاجين، ومن ثم تقوية جدران الوريد، وإنه لعجيب حقاً أن النتائج التي توصلنا إليها بقياس كمية الهيدروكسي برولين في الجدار عند أولئك المصابين بدوالي الساقين ومنهم المصلون ومنهم غير المصلين، فإذا به في المصلين وقد بلغ 26.13، وفي غير المصلين 16.43 فقط، في انخفاض مؤثر عن الأولين.
أما في غير المصلين بالدوالي أصلاً فقد كانت النتيجة مذهلة، حيث سجلنا فرقاً ملحوظاً أيضاً بين المصلين وغير المصلين.

فكان متوسط قيمة الهيدروكسي برولين في جدار أوردة المصلين 80.93، بينما استقر متوسط الغير مصلين عند 63.40 فقط، في علامة استفهام كبيرة حول هذا الدور السحري للصلاة على تنشيط القدرات البنائية للمادة المقوية لجدار الوريد هل لهذه الصلاة المنظمة المحكمة دور ما كنوع رتيب وهادئ من التمارين الرياضية البالغة الفائدة، أو حتى كعملية راشدة من عمليات الاستقرار المريح لمواجهة الضغوط النفسية الهائلة التي طالما وقع الناس فريسة لها، إن الإجابة الحاسمة قد أبصرت النور على لسان " وليام جانونج" 1981م، حيث فرق بعناية بين التمرينات العضلية الشاقة وبين تلك الهادئة الخفيفة، فقرر أن الأخيرة تحدث تغييرات تظهر في تمدد الأوعية الدموية وزيادة الضخ الدموي بها، ومن ثم تزداد نسبة التغذية بالأوكسجين الحيوي الذي يكون كافياً لإنتاج الطاقة الهادئة المطلوبة لتلك التمارين، وهكذا تكون عمليات الاحتراق بكاملها معتمدة على الهواء الجوي مع أقل نسبة من الرواسب والفضلات المتراكمة بالدم أو العضلات تلك الفضلات المزعجة والتي لا تنطلق في الدورة الدموية إلا حال الاحتياج الماس لتخليق الأوكسجين بسبيل آخر غير الهواء الجوي، وهو تكسير المخزون من الجلوكوز في سلسلة معقدة من التفاعلات تنتهي بعادم من حمض اللاكتيك، هذا الذي يتم لتخليق الأوكسجين عند ممارسة التمارين العنيفة الشاقة المرهقة.

وعلى هذا فإن التمارين الهادئة الخفيفة المنتظمة تحقق الفائديتن معاً:
أولاً: تزيد من قابلية الجسم لاستقبال نسبة أعلى فأعلى من الأوكسجين الجوي، فإذا بحيوبة دافعة في كافة أطراف الدورة الدموية.
ثانياً: تؤدي إلى أقل إفراز لحمض اللاكتيك المرهق للدورة الدموية.
ولهذا يتم الاحتفاظ بأكبر نسبة من مخزون الأوكسجين، في مقابل الجهد والطاقة المبذولة في هذه التمارين الخفيفة المبذولة أثناء الصلاة.
وهناك فائدة أخرى حيث أن كل الطاقة الناجمة من مثل هذه التمرينات لا تبرز إلا في صورة حرارة، وذلك بسبب ضعف أو حتى عدم الحركة الخارجية الكثيرة بحسب القانون الذي يحدد إنتاج القوة بمساواته للمسافة التي تقطعها الكتلة بتأثير تلك القوة، ولما كانت المسافة ها هنا منعدمة فتتحول الحرارة الناتجة وبصورة آلية إلى مخزونات داخل الجسم ومركبات غنية بالطاقة لاستخدامها كلما لزم الأمر.

وفائدة رابعة: أن هذه الحركات الدائبة ترفع من معدل تهوية الجسد فيما يسمى بالكفاءة التنفسية (وهي عبارة عن النسبة بين ثاني أكسيد الكربون المطرود من الرئتين والأوكسجين الداخل إليهما في وحدة زمنية ثابتة ) ويرمز لها علمياً بالرمز ( RQ ).

وهي نسبة لا تزيد في أحسن أحوال الجسم تهوية عن الواحد الصحيح، غير أنها تحت تأثير التمرين الخفيف للعضلات الحادث أثناء الصلاة ترتفع لتبلغ ما قيمته ضعف القيمة المذكورة يعني(2) وما ذاك إلا لسرعة طرف كميات ثاني أكسيد الكربون من الجسد وارتفاع نسبة استنشاق الأوكسجين من الهواء الطلق، أضف إلى كل هذا أن المعدل الأساسي للتمثيل الغذائي بالجسم يعتمد في نشاطه على عدة عوامل، أهمها هو الجهد العضلي، ذلك أن استيعاب كميات جديدة من الأوكسجين لا يتضاعف حال القيام بهذا الجهد فحسب، بل لفترة طويلة بعد تمامه (80)، أما الأمر الطريف والمدهش فهو أن معدل هذا التمثيل قد وجد في الأفراد المصابين بالاكتئاب والاضطرابات النفسية أقل من نظيره في الحالات السوية من الناحية النفسية، ويلاحظ ها هنا أن الصلاة باعتبارها أحد الأوامر الإلهية المؤدية إلى أتم حالات الاستقرار النفسي والاطمئنان القلبي، ما ثم هجمات للاكتئاب، ولا نوبات للأحزان، وهكذا يبلغ معدل التمثيل الغذائي أعلى نسبة له بتوفير أنسب مناخ يؤدي فيه وظائفه على أكمل وجه.

وعلى الجملة فإن الصلاة تقوم بكفاءة عجيبة بتنشيط كافة العمليات الحيوية داخل الجسم الإنساني بما فيها جميع العمليات التمثيلية الغذائية، كذا كعامل نفسي وعضلي فعال ومؤثر، ولعل في كل الذي ذكرناه لك تبريراً كافياً لهذا الارتفاع الملحوظ بين المصلين في معدلات بناء الكولاين (النسيج الرابط والمقوي بجدار الوريد الصافن)، وتلك النتيجة المبهرة التي توصلنا لها في هذا البحث المتواضع.
لأداء الصلوات بحركاتها المتميزة علاقة وثيقة بالوقاية من مرض الدوالي: -

تنشيط الصلاة للمضخة الوريدية الجانبية:
حين تنقبض عضلات مؤخر الساق ( السمانة ) تندفع الدماء بقوة داخل الأوردة العميقة من أسفل إلى أعلى، بينما تقف الصمامات المخترقة الحازمة بالمرصاد لتحول بين هذه الدماء وبين أي تسرب إلى الأوردة السطحية وهذا يعرف بمضخة السمانة ثم تنبسط عضلات مؤخر الساق فإذا بتحول الضغط فجأة من أعلى صورة إلى ضغط سالب من الأوردة السطحية إلى الأوردة العميقة، بينما تسمح الصمامات بمروره في حراستها من الخارج إلى الداخل عن طيب خاطر. 

أما رحلة الدماء العائدة عبر الأوردة نحو عضلة القلب، فإنها تتم تحت تأثير العديد من العوامل الدافعة، إذ أن الأوردة الصغرة تتشبع بالدماء الفائضة بلا انقطاع إليها من حمامات الشعيرات الدموية، بينما تكون الأوردة العميقة واقعة تحت ضغوط مستمرة نتيجة الانقباضات المستمرة للعضلات المحيطة بها، ومن الأوردة ما يكون ملاصقاً لشريان لا يفتأ يقرع نابضاً على جداره ناقلاً تلك الضغوط النبضية إلى الوريد الساكن، إن الغاية الأولى لتلك الضغوط هي عصر الدماء داخل الأوردة في كافة الاتجاهات، أما الصمامات الحارسة فتمنع انتشار الدماء إلى الخارج فلا يبقي أمام تلك الدماء المضطربة سوى طريق واحد عليها أن تسلكه وهي راغمة من أخمص القدم إلى عضلة القلب، حالما كانت الصمامات الحارسة تعمل على أقصى كفاءة لها.

ولا يغربن عن بالك أن تأثير الجاذبية الأرضية على أوردة الرأس والعنق، كذا تلك القوة الساحبة في منطقة الصدر نتيجة الضغط السلبي هنالك، كلها عوامل فعالية ومؤثرة للأخذ بيد الدماء المتسلقة في عناء نحو مستقرها الموعود في تجويف القلب.
فإذا علمت أن السرعة التي تنهج عليها الدماء في الشرايين هي أضعاف تلك المعروفة في الأوردة ومن أجله كانت الأوردة عموماً أوسع تجويفاً من الشرايين وأكثر عدداً، وهكذا وتحت وطأة السرعة الكبيرة بالشرايين في مقابل الركود النسبي بالأوردة تحدث الحركة الانعكاسية الدموية اعتماداً على فروق السرعة بين الدم الشرياني والدم الوريدي.

وحتى يتبين بلا غبش تأثير هذا جميعه على الضغوط بالطرفين السفليين، يكفيك علماً أن تدرك أن الضغط الواقع على ظاهر القدم والذي يبلغ حال الوقوف حوالي (100سم/ماء، عقب برهة صغيرة من المشي وتحريك الطرفين السفليين، يهوي هابطاً إلى رقم (30سم/ماء) في إشارة واضحة إلى فعالية تلك الآلة الدوؤبة المخلصة.. " المضخة الوريدية الجانبية ".

فإذا ما رجعنا إلى دور الصلاة نجد أننا أمام حركات بالغة المرونة لمعاونة تلك المضخة، لا لتؤدي وظيفتها التي خلقت من أجلها فحسب، بل أيضاً لتضيف إليها من العوامل المقوية، والمضعدة لتعزيز عملها على أكمل صورة، حتى إنك قد راجعت معنا النتائج الباهرة لهبوط الضغط عقب كل ركعة ليس إلى (30سم/ماء) فقط، بل أيضاً إلى ما هو قريب من درجة الصفر (1.33سم/ماء) وهي رحمة – لو تدري – عميقة بأولئك الذي قدر عليهم أن يكابدوا الوقوف المؤلم ولفترات طويلة دون راحة أو كلل، وكانت نسبتهم على الأقل في رسالتنا هذه 85% من المصابين بالدوالي يقطعون في واجبات وقوفهم بغير انقطاع حوالي 5-13 ساعة متواصلة في اليوم الواحد. 
نموذج السجود كحركة من حركات الصلاة وما يحدث أثناءه: -
إنها أخطر حركة في الصلاة بأسرها، من جهة خدمة ارتجاع الدماء إلى القلب، وتحت تعليمات دقيقة ومحددة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤدي هذه الحركة على المنوال التالي:

- كقاعدة لا استثناء لها، ينبغي أن يؤدي السجود مثل غيره من حركات الصلاة على أكمل حالات التؤدة والتأني والاطمئنان.
- ينبغي أن يطمئن الوجه تمام في ملاصقته للأرض.
- ويبقى الجذع معلقاً ومستقراً في ثبات على أعظم الوجه والكفين والركبتين وأطراف أصابع القدمين المتجهتين إلى القبلة.
- وهناك نهي صريح عن استراحة الجذع فوق الكوعين، أو الزندين بل على العكس ينبغي أن يبقي الكوعين على أقصى بعد ممكن من الجذع ذاته.
- وعلى المصلي أن يتجنب قطعياً انحناءات الظهر عند السجود، بل على الظهر أن يبقى مشدوداً بلا عوج.
- والفخذان تستقران في الوضع العمودي على الركبتين في حالة شبه استرخاء كامل.
- أما عن الساقين فكلاهما يرتكن على أطراف القدم التابعة له، فيما يبقى من جهته الأخرى مثبتاً على مفصل الركبة لذات الطرف السفلي.

ب – التغيرات الوريدية العضلية حال السجود:
- يتم شد الظهر وتجنب أي انحناء فيه بالاعتماد تماماً على أكبر انقباض للعضلة الظهرية الناصبة والتي تمتد منطقة عملها من العنق وحتى العصعص ( لاحظ التعاليم النبوية بتجنب الاعتماد على الكوعين في السجود مما يطلق يد العضلة المذكورة في العمل بلا عرقلة ).
- يحدث تمدد ا لعنق تحت فاعلية العضلة الرأسية العنقية ذات الأهمية المعروفة من ناحية الارتجاع الوريدي للدماء.
- انثناء البطن في الوضع الساجد يتم بتضافر العضلة البطينية الأمامية في جدار البطن مع جاراتها المائلات العاملات معها في تفاهم كامل.
- ثني مفصل الفخذ بالعضلة الممتدة من الإلية لأعلى الفخذ.
- انثناء مفصل الركبة، بينما تعتمد الساق على أطراف الأصابع المنتصبة باتجاه القبلة يعطي حالة من الاسترخاء التام لمجموعات العضلات الواقعة في منطقة الفخذ.
- وكذا في هذا الوضع المتميز للساق ترتاح عضلات السمانة ( خلف الساق ) وتتراخى تماماً، بينما يساعد الوضع المنحدر من الخلف إلى الأمام إلى تدفق الدماء بمساعدة العون القيم الذي تسديه الجاذبية الأرضية.
- أما مفصل الكعب فيلزم وضع الانثناء الظهري له، وذلك لثبات القدم على أطراف الأصابع المستقرة على الأرض.

جـ – ارتجاع الدماء الوريدية تحت تأثير الجاذبية الأرضية:
إن أعجب شيء في وضع السجود هو أنه يجعل الدورة الدموية بكاملها تعمل في ذات الاتجاه الذي تعمل به الجاذبية الأرضية فإذا بالدماء التي طالما قاست من التسلق المرير من أخمص القدم إلى عضلة القلب وقد تدفقت منسكبة في سلاسة ويسر من أعلى إلى أسفل.
متوسط الضغط الواقع على ظاهر القدم أثناء الوقوف (93.70سم/ماء) بينما في حالة السجود الأول (3سم/ماء):
- وكما علمت فإن شد الظهر واستقامته تؤديه العضلة الناصبة الظهرية حيث تطرد دماءها الغزيرة إلى تيار الدم المتدفق في الأوعية الدموية الكبرى، التي تقع هذه المرة في مستوى أعلى من مستوى عضلة القلب مما يدفع بالدماء إليه في سرعة ويسر تحت معاونة عجلة الجاذبية الأرضية.

- والعنق كما سبق بما خلفها من العضلة العنقية الرأسية، إذ تنقبض فتقذف بأغلب دمائها المنتشرة في الشبكة الدموية السخية.
- في هذا الوضع المميز، وتحت تأثير انضغاط التجويف البطني، مع الانقباض النسبي لعضلات جدار البطن الأمامي، فإن الزيادة الحادثة في الضغط داخل تجويف البطن تؤدي بالضرورة إلى اعتصار الدماء التي تشق طريقها بغير عناء كبير، أو عرقلة في الاتجاه المتاح أمامها نحو عضلة القلب، التي تقبع في أدنى مستوى من الدورة الدموية متلقية إمدادات الدماء الهاوية إليها من المستويات الأعلى.
- ومما يزيد من سرعة ارتجاع الدماء نحو القلب وتداعيه إليه من كل عرق بعيد، تلك القدرة العجيبة للقلب على تخليق الضغط السالب المؤدي إلى سحب الدماء سحباً من تجاويف الأوردة الكبرى الواصلة إليه، مضافاً إلى ذلك القدرة الماضية للجاذبية الأرضية.
- ونتيجة للارتخاء المفاجئ لعضلات سمانة الساق، فإن قوة من السحب السالب للدماء من الأوردة السطحية إلى العميقة تتولد مخلفة أوردة الساق السطحية، وهي خاوية من غالبية الدماء التي كانت تضغط بكل قواها على جدرانها.
- وأخيراً فإن وضع الأقدام منتصبة على أطراف الأصابع أثناء السجود يؤدي إلى إنقباض المضخة الوريدية داخل أوعية القدم، مما يزيد في كفاءة ارتجاع الدماء الوريدية.

فوائد طيبة في السجود:
وباختصار فإن حركة السجود تؤدي إلى منافع جمة في تيسير مهمة الارتجاع الدموي صوب القلب على ما يلي:
أولاً: توجيه الدورة الوريدية بالجسم عموماً في اتجاه عمل الجاذبية الأرضية.
ثانياً: تنشيط المضخة الوريدية في البطن إلى أقصى درجة ممكنة.
ثالثاً: سحب الدماء بمضخة الساق من الطاقم السطحي إلى الطاقم العميق من أوردة الطرف السفلي.
رابعاً: أقصى استخدام لقوة السحب السالب من عضلة القلب جنباً إلى جنب مع سحب الجاذبية الأرضية.
ملحوظة: إن هذه لهي الدور الثانية للارتجاع الدموي تحت تأثير مضخة البطن الوريدية، فأما الأولى فقد أنجزت بنجاح بانقضاء حركة الركوع.
وهكذا فإن عمل مضخات الطرفين السفليين يتم في جو من اليسر والتشجيع من أجل تفريغ الأوردة السطحية إلى العميقة، في نتيجة نهائية بالراحة التامة لتلك الأوردة السطحية الواقفة وحدها بلا عون أمام تيار متواصل لا ينقطع من الدماء الوريدية الدافقة.

الرفع من السجود ( الجلوس ):
أولاً: توصيف الحركة:
كقاعدة سبق ذكرها، فإن هذه الحركة لابد وأن تقطع حيزاً زمنياً قريباً من ذلك الذي يقضيه المصلي ساجداً، وأهمية هذه الحركة بالذات يرجع إلى الدرجة العالية من التكامل بينها وبين سابقتها، ويمكن للمصلي أن يؤديها على صورتها المثالية كما يأتي:
في خشوع تام يتم رفع الرأس باطمئنان من فوق الأرض وحتى يستوي الجسم في وضع الجلوس بالظهر منتصباً والفخذ الأيسر مستقراً فوق الساق اليسرى، أما الساق اليمنى فتطمئن على أطراف أصابع القدم اليمنى، بينما يرتكز الكفان على كلا الفخذين، وهذا الوضع برمته يسمى بالمصطلح الشرعي ( الافتراش ).

ثانياً: التغيرات الوريدية والعضلية:
- عضلات الجدار الأمامي للبطن تكون في وضع شبه منقبض.
- الوصلة بين الجذع والطرفين السفليين تكون في حالة استرخاء تام.
- الضغط البطني المرتفع أثناء السجود هو الآن أقل بصورة ملحوظة.
- مفصل الفخذ منثني بفعل عضلة الإلية والفخذ.
- مفصل الركبة قد انثنى تماماً مع ضغط كامل من الفخذ على عضلات الساق.
- أما هذه العضلات الأخيرة فهي في حالة تامة من ا لاسترخاء، بينما هي مضغوطة في عنف بثقل الفخذ فوقها.
- مفصل الكعب في حالة انثناء ظهري.

ثالثاً: المضخة الصدرية في ذروة فعاليتها:
يستتبع الرفع من السجود وبصورة آلية شهيق عميق، مما يؤدي إلى تنشيط كامل للمضخة الصدرية، حيث سبق ذكرها تفصيلاً أثناء التعرض لحركة الرفع من الركوع.
ثم انظر إلى الطرفين السفليين في هذا الوضع، ترى أنهما قد انثنيا والعضلات مسترخية متيحة فرصة للدماء السطحية أن تجد طريقاً رحباً نحو التيار العميق، هذا بينما تعتصر عضلات الفخذ جاراتها الكاسيات لعظام الساق بما بها من أوردة لا تلبث أن تتلخص من دمائها تاركة طاقم الأوردة السطحية على أتم راحة وأكمل استرخاص، وتشارك ركب ارتجاع الدماء مضخة القدمين حيث تدفع بالدماء على أقصى قدرتها.
فوائد طبية في الجلوس بين السجدتين:
وهذا يؤدي الجلوس إلى:
أولاً: مضخة صدرية تعمل على ذروة فعاليتها.
ثانياً: مضخة بطنية تعمل على ذروة فعاليتها.
ثالثاً: اعتصار الدماء الوريدية بالطرفين السفليين على أقصى صورة.
رابعاً: ومن ثم أقصى ارتياح لجدران الأوردة السطحية للساق.

الخلاصة:
وهكذا فإن الصلاة تعد عاملاً مؤثراً في الوقاية من دوالي الساقين عن طريق ثلاثة أسباب:
الأول: أوضاعها المتميزة المؤدية إلى أقل ضغط واقع على الجدران الضعيفة لأوردة الساقين السطحية.
الثاني: تنشيطها لعمل المضخة الوريدية الجانبية، ومن ثم زيادة خفض الضغط على الأوردة المذكورة.
الثالث: تقوية الجدران الضعيفة عن طريق رفع كفاءة البناء الغذائي بها، ضمن دفعها لكفاءة التمثيل الغذائي بالجسم عموماً.

الإعجاز العلمي في الحديث النبوي (ما من عام أمطر من عام)

| 0 التعليقات


د. شاهر جمال آغا


لقد خص الله جل جلاله الأرض بغلافها الأرضي الجغرافي (Geosphere) الذي تميزت به عن أترابها من الكواكب الشمسية وسواها المعروفة حتى الآن، والغلاف مكون من أجزاء أربعة: الجوي (Atmosphere) والصخري (Lithosphere) والمائي (Hydrosphere) والحيوي العضوي (Biosphere).
تتفاعل الأجزاء هذه وبفعالية كبيرة وباستمرار مع بعضها البعض، وذلك عبر النقل المتبادل للطاقة والمادة(1)، مما يجعل من الغلاف الأرضي الجغرافي كتلة طبيعية واحدة متكاملة. وتجدر الإشارة إلى أن للماء الدور الحاسم في إتمام عمليات النقل والتبادل آنفة الذكر، وذلك لما للماء من سمات وخصائص فيزيائية وكيميائية ينفرد بها:
أ ـ يوجد الماء في الغلاف الأرضي الجغرافي وبآن واحد في ثلاثة أطوار (أشكال) فيزيائية/سائلة وهي الأساس، وغازية/بخار الماء، وصلبة/جليد.
ب ـ للماء مقدرة كبيرة في حل المركبات الكيميائية وتحويلها إلى شوارد حرة وعلى حل أو إذابة المركبات الصخرية.
ج ـ حركيته ولزوجيته المعيارية التي تمكنه من تحريك ونقل ما قام بحله وإذابته من مواد وغازات إلى مسافات بعيدة.
د ـ يصل الماء في طوره الغازي إلى أعلى طبقات الجو وإلى أعمق مناطق القشرة الأرضية من خلال مسام الصخور وشقوقها وفجواتها.
هـ ـ كم الماء كبير جداً على سطح الأرض (قرابة 1.38 مليار كم3)(2) وهو ما لا نجده في الكواكب الأخرى، لذلك عُرِف بالكوكب الأزرق. إن الكم المشار إليه معياري المقدار فأي تغيير محسوس فيه سيغير قوانين الأرض الطبيعية ويبدل معايير توازنها المادي والطاقي ويحولها تدريجياً إلى كواكب أخرى غير الأرض الحالية.
و ـ هذا الكم الكبير من الماء السائل الأرضي وفي ظل الواقع الفيزيائي والكيميائي الحالي للأرض كتلة وسطحاً يقدم مقداراً محدداً بدقة من المياه العذبة التهطالية المنشأ الكافية لتلبية كل حاجات الكائنات الحية وحاجة الفعاليات المناخية والحيوية والتبدلات الصخرية ضمن الغلاف الأرضي الجغرافي، ومن ناقلة القول إن تغيراً ملموساً لمقدار المياه العذبة سيؤثر سلباً على كل عناصر الغلاف الأرضي المذكور.
انطلاقاً من الحقيقة السابقة، سطع نجم الإعجاز الإلهي والنبوي الشريف وذلك بإخبارنا وقبل (1400سنة) ونيف أن ما يصل إلى الأرض من هطول محسوب بدقة ولا يتغير وسطياً من عام إلى آخر، وهو ما يعبر عنه في العلوم الجغرافية والعلوم الطبيعية بالتوازن الرطوبي والتهطالي، ولنقرأ أولاً ما جاء في القرآن الكريم:
(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (الزخرف: 11).

(وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) (المؤمنون: 18)
ثم لنقرأ قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أن رسول الله قال: (ما من عام أمطر من عام ولكن يصرفه حيث يشاء، ثم قرأ: ولقد صرفناه بينهم)
ـ (رواه الحاكم والبيهقي موقوف دون مرفوع).
عند قراءة الحديث الشريف نرى حقيقتين:
أ ـ الكم المحدود من الهطول السنوي (ما من عام أمطر من عام).
ب ـ قوله ـ عليه السلام ـ: يصرفه حيث يشاء تعنى توزيع الهطول على سطح الأرض توزيعاً حدده رب العزة بشكل يحقق التوازن النطاقي والإقليمي على سطح الأرض، والتوازن الرطوبي المنطلق لتحقيق مختلف أشكال التوازن المادي والطاقي الأرضي، وعند الله كل شيء بمقدار (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: 8).
سنرى الآن مصداق المعيارية والمقدارية المشار إليها في الآيتين الكريمتين السابقتين وفي الحديث الشريف كذلك، وذلك لدى وقوفنا أمام ظاهرة الدورة الرطوبية على سطح الأرض، وتتكون الدورة الرطوبية من مجموعتين من العناصر الرطوبية:
أ ـ المجموعة الأولى مجموعة عناصر الكسب الرطوبي(3)
ب ـ المجموعة الثانية مجموعة عناصر الخسارة الرطوبية.
نرى في المحيطات أن عناصر الكسب الرطوبي تتجلى في كمية الهطول السنوية فوق المحيطات (Xo) وبما يرد إليها من مياه نهرية عذبة من اليابسة (Y)، وأما الخسارة فإنها عبارة عن كمية المياه المتبخرة سنوياً من المحيطات أي (Eo)، وهكذا نجد أن الموازنة المائية الرطوبية المحيطية تأخذ الشكل التالي:
(E o = Xo + Y)
وإذا ما ترجمنا ما سبق إلى أرقام مقدرة بآلاف الكم المكعبة من الماء نجد:
( E o = 458 + 49 = 505)
وهذا يعني أن كمية ما يتبخر سنوياً من المحيطات يعادل (505) ألف كم3، وهي تعادل مقدار الهطول فوق المحيطات (458) ألف كم 3 مضافاً إليها مياه الأنهار الصابة فيها (47) ألف كم 3.
أما بالنسبة للقارات فإن عنصر الكسب يتمثل بكمية الهطول السنوية الذي يتم فوقها (Xc) والبالغة (119) ألف كم3، إلا أن الخسارة الرطوبية تتجلى في كمية مياه الأنهار الصابة في المحيط العالمي، وتعادل (47) ألف كم3 كما رأينا، وهكذا نجد أن مجموع ما يتبخر سنوياً فوق القارات (Ec) يعادل (72) ألف كم3:
Ec= Xc (119) – Y (47) = 72
بعد أن تعرفنا على عناصر التوازن المائي الرطوبي فوق كل من المحيطات
(Eo + Ec = Xo + Xc) واليابسة يمكننا أن نوحدها في معادلة واحدة: وتعادل رقمياً: (505 + 72 = 458+119) وإذا ما رمزنا للتبخر على الأرض عامة ب (E) وللتهاطل ب (X) نجد أن المعادلة تبدو كالتالي:
(E = X)
ومما سبق نجد تساوي كميتي الرطوبة في طرفي المعادلة التوازنية:
E (577) = X (577) (4)
أي إن مجموع ما يتبخر على سطح الأرض يعادل كمية الهطول السنوية فوقها، وصدق الرسول الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى عندما قال: (ما من عام أمطر من عام..) وتبارك الذي أنزل من السماء الماء بقدر ليسكن الأرض.
ويمكننا أن نجمل ما سلف بالجدول التالي:
الجريان النهري (Y)التبخر(E)الهطول(X)المساحة (مليون كم2)المنطقة
ملم mmألف كم3ملم mmألف كم3ملم mmألف كم3
1304714005051270458361المحيط العالمي
3154748572800119149اليابسة
ــــــــ11305771130577510الأرض عامة
والسؤال الآن: ما سر وجود هذا الكم المحدد (وسطياً) من المياه المتبخرة والمتكاثفة سنوياً؟
إن الإجابة تكمن في مظهر آخر من مظاهر التوازن الطبيعي على سطح الأرض، إنه التوازن الإشعاعي الحراري الأرضي الجوي.
تقدر الطاقة الحرارية الشمسية الواصلة إلى سقف الغلاف الجوي الأرضي بحوالي (1.36.10)24 حريرة/سعرة/سم2/سنة وهو ما يعادل (2/1 ÷ 2 مليار) (5) من مجموع الطاقة الحرارية الشمسية. وإذا ما سلطت هذه الطاقة ـ أي الطاقة الكاملة للشمس ـ على محيطات الأرض وبحارها ستتبخر كاملاً خلال (1.5) ثانية وستختفي تماماً.
عندما تصل أشعة الشمس (R) إلى الأرض وجوها تتعرض لتبدلات عديدة تمثل الموازنة الإشعاعية الجوية المكونة من العناصر التالية:
(R= D+E+C) (6)
إذ إن (R) ـ تمثل مجموع الأشعة الواصلة إلى جو الأرض وسطحها.
(D) ـ تمثل مجموع الأشعة الإجمالية التي تمتص من قبل اليابسة وماء المحيطات.
(E) ـ تمثل مجموعة الأشعة الممتصة من قبل الجو.
(C) ـ تمثل مجموع الأشعة المنعكسة من على سقف الجو وسطح الأرض.
ولنفصل قليلاً:
عندما تبلغ أشعة الشمس (R) إلى سقف الجو ينعكس منها ما نسبته (31%) مباشرة إلى الفضاء الخارجي (C) وما تبقى من الأشعة (69%) يدخل الغلاف الجوي (E) فيمتص منه قرابة (17%) والباقي (52%) أي (D) فإنه يمثل مجموع الأشعة المباشرة والمنتثرة الواصلة إلى سطح الأرض، والتي ينعكس منها إلى الجو قرابة (4%)، وهكذا يتبقى من الأشعة ما يعادل (48%)، ونجد أن (18%) يصرف إشعاعاً أرضياً فعالاً ذاتياً إلى الجو، وما تبقى أي (30%) فإنه يعتبر المخزون الأرضي الإشعاعي الفعلي الذي يتحول جزء منه إلى طاقة حرارية تعمل على تبخير المياه على اليابسة والمحيطات وبنسبة (22%) من مجموع الأشعة الممتصة فعلياً من قبل سطح الأرض، أما ما تبقى وهو (8%)، فإنها تصرف على عمليات التبادل الحراري الطاقي بين الأرض والجو.
وهكذا فإن الموازنة الإشعاعية الطاقية لسطح الأرض فإنها تبدو كالتالي:
(30% - (22% + 8%) = 0) تتوزع الطاقة المصروفة على التبخر الأرضي نطاقياً (حسب درجات العرض) بالشكل التالي مقدرة بالحرة (كيلو كالوري)/ سم2/سنة:
درجات العرض0-1020-3040-5060-7080-90
الطاقة ك.ك747845257
وسطي سطح الأرض (59)
هذه الطاقة التي تعادل بالنسبة لسطح الأرض ماء ويابسة (59) ك. كالوري وسطياً تكفي على مدار السنة تبخير ما مقداره (577) ألف كم3 من المياه السائلة من على سطح الأرض، وحسب قوانين التوازن الرطوبي آنفة الذكر، ستتحول المياه المتبخرة كاملاً إلى مياه سائلة ثانية (هطول) أي بمقدار (577) ألف كم3، وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أخبرنا بذلك قبل (1400) سنة ونيف بقوله: (ما من عام أمطر من عام ولكن يصرفه حيث يشاء..) وذلك بعد أن أوحي له بذلك رب العزة الذي نزل من السماء بقدر فأسكنه في الأرض.
سؤال آخر يدغدغ عقولنا ثانية وهو:
لماذا لا يصل جو الأرض وسطياً سوى (1.36.10)24 حريرة/سم2/سنة، مع أن طاقة الشمس الحرارية عظيمة هائلة كما أبنت سابقاً؟
إني أرى أن الإجابة تكمن في الآية الكريمة القائلة: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (لقمان: 29).
لنتوقف قليلاً عند كلمة (سخر) لنرى معانيها وأبعاد هذه المعاني.
لقد أورد علماء التفسير في تفاسيرهم(7) معاني محددة للكلمة تتمثل في: طوع، ذلل، أخضع وكلها ترجمات صحيحة للكلمة وفي معاجم اللغة تصادف معنى أخوا إضافة لما سبق وهو العمل بلا أجر وبدون مقابل، وكلنا يعرف مدلول كلمة السخرة.
في الواقع نستشف كل المعاني السابقة في كلمة سخر، فالله ـ جل جلاله ـ طوع وذلل وأخضع الشمس لخدمة الأرض ومن عليها بلا مقابل ولا أجر يدفعه أهل الأرض لمالك الأرض والسماء.
ولنرى الآن الكيفية التي تمت فيها عملية التسخير هذه:
1 ـ لقد وضع الله الأرض في بعد معياري مثالي (وكذلك الشمس) بالنسبة للشمس، والذي يعادل وسطياً (150 مليون كم)، الأمر الذي نتج عنه:
أ ـ توفير الإضاءة والطاقة المعيارية المناسبة للأرض، ولقد أشرت إلى ذلك آنفاً، وأضيف بياناً لما ذكرته، أن كوكب عطار لا يبعد عن الشمس سوى (58) مل كم، وعليه تصله من الطاقة الحرارية الشمسية سبعة أضعاف ما يصل إلى الأرض تقريباً، لذا كثيراً ما تتجاوز حرارته نهاراً (400) درجة(8)، ونفس الشيء بالنسبة لكوكب الزهرة الذي يبعد عن الشمس (108) مل. كم الذي تبعا لذلك تصله ضعف الطاقة الحرارية الشمسية الذاهبة إلى الأرض، ونقيضاً لما ذكرته نجد أن كوكب المريخ وهو الأشبه بالأرض ولكنه الأكثر بعداً عن الشمس (220 مل.كم) نصيبه من الطاقة الشمسية لا يتعدى (57%) من الطاقة الشمسية البالغة كوكب الأرض، لذا فإن درجات الحرارة في سطح المريخ، أدنى من الصفر دائماً.
ب ـ لقد سمح البعد المعياري للشمس ببقاء الأرض في مدارها الحالي وفي الحفاظ على هويتها الكوكبية المميزة (ماء ـ كائنات حية ـ ظروف طبيعية مثالية). فلو كانت أقرب لأضحت في شكلها وخصائصها مضارعة لكوكبي عطارد والزهرة، ولو بعدت عن الشمس أكثر لأصبحت مشابهة لكوكب المريخ، وفي جميع الأحوال ستتبدل الأرض إلى غير الأرض.
ج ـ لقد ساعد البعد المعياري هذا على بقاء القمر تابعاً للأرض يدور في فلكها وهو كما نعلم قنديل الأرض وتقويمها الزمني: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس: 5).
2 ـ لقد أدى واقع البعد المعياري لكل من كتلتي الشمس والقمر إلى تحقيق أمور غاية في الأهمية بالنسبة للأرض:
1 ـ ظهور الميل المحوري للأرض، فكما نعلم محور دورانها حول نفسها ليس عمودياً بالنسبة لمساره في مداره (Orbit) بل نواه يميل بمقدار (23.27) درجة ولهذا الميل أثر عظيم على مظهر الأرض الخارجي وخصوصيتها الطبيعية وعلى كمية الأشعة الشمسية الواصلة إلى سطحها وجوها:
1 ـ لقد حددت درجة ميل المحور كمية الأشعة والطاقة الشمسية المقدار الأمثل من الطاقة المناسبة والضرورية لسطح الأرض ولمن يحيا فوقها، فالطاقة التي تصل إلى سقف الغلاف الجوي أكثر مما تحتاجه الأرض فعلياً وبخاصة في العروض الجغرافية العليا (المتوسطة وشبه القطبية والقطبية).
2 ـ سمح الميل المحوري المذكور بظهور الفصول الأربعة بوضوح ومعروف جغرافيا أهمية الفصول إشعاعياً حرارة ورطوبة.
3 ـ توزعت الحرارة نطاقياً على سطح الأرض(9)، لذا ظهرت النطاقات الحرارية ومن ثم النطاقات الطبيعية التي تتدرج في حرارتها من النطاق الاستوائي حيث سقوط الأشعة عمودي على سطح الأرض إلى النطاق القطبي البارد دائماً لأن خطوط الأشعة الشمسية تمس الأرض مسا فلا تحمل معها إلا اليسير جداً من الطاقة إلى هذا النطاق، وبين النطاقين المذكورين نرى النطاق المداري ثم شبه المداري والمتوسط، وبالواقع تكمل النطاقات مجتمعة بعضها البعض لترسم لوحة المظاهر الطبيعية الحية والجامدة فوق الأرض.
4 ـ انقسمت الأرض إلى نصفين متضادين حرارياً وإشعاعياً: نصف شمالي (شمال خط الاستواء) وآخر جنوبي. وشتاء النصف الشمالي يقابله صيف النصف الجنوبي وبذلك يتحقق توازن حراري وإشعاعي على سطح الأرض ولن يحدث شذوذ حراري ارتفاعاً وانخفاضاً يخل بالواقع الحراري الأرضي السطحي.
5 ـ عمل الميل المحوري للأرض على تباين طول الليل والنهار ما بين خط الاستواء والقطبين فهما متساويان في النطاق الاستوائي دائماً ولكنهما مختلفان طولاً كلما اقتربنا من الدائرة القطبية، إذ يختفي الليل في الانقلاب الحراري الصيفي في القطب الشمالي بينما لا نري النهار في القطب الجنوبي. ويحدث العكس بين القطبين في الانقلاب الحراري الشتوي، وبالطبع سيؤثر هذا الواقع على قيم الإشعاع والحرارة ما بين الاستواء والقطبين، وسبحان من قال: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ) (إبراهيم: 33).
ب ـ أدى البعد المعياري لكتلتي الشمس والقمر عن الأرض إلى ظهور رد فعل أرضية مناسبة ومتوازنة مع قوة جذب الجرمين المذكورين وذلك على شكل قوة نابذة متعاكسة في اتجاهها مع القوة الجاذبة الشمسية القمرية، وردة الفعل هذه الناجمة عن حركة الأرض الدورانية قد حققت ثبات سير الأرض في مدارها المعروف حول الشمس وحددت سرعة حركتها والمقدرة وسطياً بـ (29.8)كم/ثانية، مما أدى إلى انتظام طول السنة (365 يوماً ونيف) واليوم (24) ساعة، وإذا ما عدنا إلى كواكب عطارد والزهرة والمريخ نجد أن طول اليوم عطارد (176) يوماً أرضياً، بينما السنة لا تتجاوز (88) يوماً وبالنسبة للمريخ يكاد يكون طول السنة ضعف طولها في الأرض أي (678) يوماً... وهكذا بقية كواكب المجموعة الشمسية، وهذا التباين الكبير في طول كل من السنة واليوم في الكواكب الأخرى ومعياريته بالنسبة للأرض أحد الأسباب الأساسية في تباين واختلاف النظم الحرارية ما بين الكواكب هذه والأرض.
في الختام لا يسعني إلا أن أشير إلى أن الله جلت قدرته لم يكتف بتسخير الشمس والقمر بل إنه سخر الأرض ذاتها لساكنيها الأحياء لتكون لهم مستقراً وقراراً، وذلك بأن جعل تركيبها وتطبقها وطاقتها وكتلتها وحجمها معيارياً مما وفر للأرض:
1 ـ غلافاً جوياً مثالياً في تركيبه (آزوتي أكسجيني) وفي وزنه وسماكته مما أعطاه الفرصة لعكس وامتصاص قرابة (52%) من مجموع الأشعة الشمسية القادمة إلى الأرض، فحافظ بذلك على الظروف الحرارية والرطوبية الحالية.
ب ـ درعين واقيين يحميان أحياء الأرض من المواد والإشعاعات الشمسية والكونية القاتلة والدرعان هما:
1 ـ الساحة المغناطيسية وتمثل الخط الدفاعي الأول والبعيد عن الأرض.
2 ـ طبقة الأوزون القريبة من سطح الأرض (25 ـ 40 كم وسطياً).
ولا يسعني إلا أن أتم هذه الأسطر بقوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (العنكبوت: 61)، وقوله كذلك: (وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) (الحجر: 21).
المصادر
أولاً: المصادر العلمية والتاريخية:
1 ـ ايفانوف ك. إ. وسواه. الهيدرولوجيا العامة. لينينغراد 1984م.
2 ـ شوبايف ل.ب ـ علم الأرض العام. موسكو 1969م.
3 ـ ماروف م. يا. ـ كواكب المجموعة الشمسية. موسكو 1988م.
4 ـ ما تفييف ل. ت. ـ فيزياء الجو ـ لينينغراد 1984م.
5 ـ مجموعة من العلماء ـ هيدرولوجيا اليابسة ـ موسكو 1986م.
6 ـ ميلكلوف ف. ت. ـ علم الأرض العام ـ موسكو 1990م.
7 ـ نيلكلو كوفال ن . ب. ـ علم الأرض العام ـ موسكو 1976م.
8 ـ الزايد سميره ـ الجامع في السيرة النبوية ـ دمشق 2000م.
ثانياً: التفسير:
1 ـ تفسير الطبري، ابن جرير. بيروت.
2 ـ تفسير فتح القدير، محمد علي بن محمد الشوكاني. عالم الكتب
3 ـ تفسير محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، دار القرآن الكريم ـ بيروت 1981م.
4 ـ تفسير مختصر ابن كثير ـ تحقيق محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم ـ بيروت 1979م.
ثالثاً: كتب السنة الشريفة:
1 ـ دليل الصالحين ـ محمد بن علان الصديقي. المكتب العلمية ـ بيروت 1989م
2 ـ رياض الصالحين ـ الإمام النووي . مؤسسة الرسالة 1991م
الهوامش:

(1) ميلكو ف .ق ـ علم الأرض العام موسكو 1990
(2) مجموعة من العلماء . هيدرولوجيا اليابسة ـ موسكو 1986
(3) ايفانوف ك. إدسواه. الهيدرولوجيا العامة ـ لينينغراد/ 1984
(4) ماتفييف ل. ت. فيزياء الجو. لينينغراد/ 1984
(5) يختلف هذا الرقم قليلاً من عالم إلى آخر والمهم في جميع الأرقام نرى تماثلاً في قيم التبخر والهطول السنوي.
(6) نيكلوكوفا ن. ب. علم الأرض العام ـ موسكو/ 1976
(7) تفسير الطبري، وابن كثير والصابوني... الخ
(8) ما روف يام كواكب المجموعة الشمسية موسكو/ 1988
(9) شوبايف ل ب ـ علم الأرض العام موسكو/ 1969

الناصية ووظيفة الفص الجبهي للدماغ.. دراسة إعجازية لسورة العلق

| 0 التعليقات


أ.د محمد يوسف بكر



ورد في القرآن الكريم ذكر الناصية - وهي مقدمة الرأس أو الجبهة _ في آيتين من سورة العلق، وربطت الأولى منها بين الناصية والتحكم في اتخاذ القرار، في قوله تعالى: {.. لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيةِ}(سورة العلق:15). ووصفت الآية الثانية، ذات الناصية بالكذب والخطأ في قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئةٍ} (العلق: 16). ووصفتها آية أخرى بأنهامكان القيادة في المخلوق الحي وبها جماع أمره كله، قال تعالي: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ( هود:56). كما أشارت إلى هذا المعنى آيات أخرى وأحاديث نبوية كريمة.
الجانب التفسيري:
وبعد مراجعة أقوال اللغويين والمفسرين لهذه النصوص ظهر لنا أنها تشير إلى الحقائق التالية:-
1- وصف ذات الناصية وصفا حقيقيا بالكذب والخطأ، فمعنى ناصية كاذبة خاطئة: أي كاذبة في قولها خاطئة في فعلها(تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن السعدي)، أي أن القدرة على التحكم في الأقوال بجعلها كاذبة أو صادقة والقدرة على التحكم في الأفعال بجعلها خطأ أو صواب وصف لازم من أوصاف الناصية، وهذا الوصف وإن كان واردا للناصية - التي تعنى مقدم الجبهة - إلا أنه لا يوصف بهذه الأوصاف على الحقيقة ؛ لأنه جزء عظمى من الرأس فعند التحقيق بدراسة التركيب التشريحي لمنطقة أعلى الجبهة وجد أنها تتكون من أحد عظام الجمجمة المسمى بالعظم الجبهي (frontal bone) ويستتر خلفه محميا به أحد فصوص المخ المسمى بالفص الجبهي ( Front lobe) وبهذا يمكن القول بأن الناصية كما تطلق على العظم الجبهي، يمكن أن تطلق أيضا على ما يستتر خلفه من الفص الجبهي للدماغ، حيث إنه الجزء والمكان الذي يمكن أن يوصف بهذه الأوصاف وصفا حقيقيا، ويتحقق العمل فيه بظاهر النص من غير حاجة إلى تأويل أو مجاز، وتعبير إسناد الوصف أو الفعل لشئ والمراد ما فيه تعبير شائع في القرآن الكريم، ولا أدلّ على هذا من قوله تعالى ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الّتِيَ أَقْبَلْنَا فِيهَا ) [يوسف آية 82 ] فلا يوجه السؤال إلى مباني القرية أو إلى ذوات العير، وإنما للناس داخل هذه القرية والمصاحبين منهم لهذه العير كما أن مفهوم النص في قوله تعالى: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) وقول النبي(صلى الله عليه وسلم) في الحديث (ناصيتي بيدك ) يؤكد هذا المعنى حيث تشير النصوص إلى أن الجزء المختص بقيادة الدواب كلها وتوجيهها- وعلى رأسها الإنسان ـ يخضع لهيمنة الله وسلطانه. وهذا الجزء لابد أن يكون في الدماغ حيث هو العضو المختص بتسيير شئون الدواب والسيطرة على تصرفاتها. وبما أن النصوص سمت هذا الجزء بالناصية فلابد أن يشمل الجزء الأمامي من الدماغ الذي يقع خلف مقدمة الرأس.
بناء على ذلك فإن مفهوم النصوص يتيح لنا أن نقول بأن الناصية بما تحوى من الفص الجبهي للدماغ هي مكان القيادة والتوجيه للسلوك والتصرفات الإنسانية.
2- حرية الاختيار متاحة للإنسان وهي مرتبطة كما يفهم من الآية بالناصية، أي بالفص الجبهي للدماغ، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يمكن أن يتحكم في سلوكه وفق ضوابط التصرفات القولية والفعلية - من الصدق والكذب والخطأ - لذا قال ربنا سبحانه: (لئن لم ينته لنسفعن بالناصية) أي لئن لم ينته عما يقول ويفعل وينزجر، لنأخذن بناصيته أخذاً عنيفاً. وربما يشير هذا التهديد بقطع أو فصل الناصية، لأن السفع هو الجذب الشديد.
الجانب العلمي:
هذه هي الحقائق المفهومة من النصوص، فماذا قال العلم الحديث عن ناصية الإنسان والحيوان ؟ يظهر العلم الحديث عدة حقائق عن ناصية الإنسان ودماغه يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1- دماغ الإنسان هو الأضخم: يعتبر دماغ الإنسان من وجهة النظر التشريحية، أضخم ما في مملكة الحيوان بالنسبة لوزن الجسم، لكن هناك ثلاثة حيوانات فقط تتمتع بأكبر وزن مطلق للمخ وهي: الحوت والفيل وخنزير البحر.
2- الفص الجبهي أكبر فصوص الدماغ: يتكون دماغ الإنسان من عده فصوص: الفص القذالى والجدارى والصدغى، وكما نرى في شكل (لسان العرب 15/327) فإن الفص الجبهي هو أكبرها على الإطلاق.
3- قشرة المخ هي الوزن أو الحجم الأكبر في الدماغ: يتكون حجم أو وزن دماغ الإنسان إلى حد كبير من المخ ( Cerebrum ) وعلى الأخص قشرة المخ (Cerebalcortex)، والتي يمثل الجزء الأكبر منها مناطق الربط الثلاث: منطقة الربط الجدارية الصدغية القذالية، ومنطقة الربط الصدغية، ومنطقة الربط الجبهية (شكل 1)

وتتكون النسبة الكبرى من مناطق الربط هذه من قشرة الفص الجبهي وامتدادها المباشر من قشرة المنطقة قبل الحركية ( Premotorarea)،وقشرة المنطقة الحركية الإضافية (Supplementary motor area ).
4- يمتلك الإنسان قشرة مخ شاسعة بالنسبة للحيوان، خاصة قشرة الفص الجبهي: يختلف دماغ الإنسان عن دماغ الحيوان من الناحية الشكلية، حيث تتسع مساحة قشرة المخ، وخاصة قشرة الفص الجبهي، كما يزداد حجمه، أما لدى معظم الحيوانات فيتكون الفص الجبهي إلى حد كبير من قشرة الشم، التي تعدو لدى الإنسان أن تمثل جزءاً صغيراً إذا ما قورنت بالأجزاء الكبرى من قشرة الفص الجبهي انظر الشكل 2.

5- قشرة الدماغ الحوفية التي تتحكم في الوظائف الغريزية أكبر في الحيوان منها في الإنسان: وهناك أيضا ميزة شكلية أخرى هامة تتعلق بحجم قشرة الدماغ الحوفية، والتي تتحكم في الوظائف الحركية الغريزية أو الانعكاسية، مقارنة بقشرة المخ الحديثة ( Neo Cortex ) وهذا يقدم لنا الدليل على أن التحكم في الوظائف الحركية لدى الحيوانات يكون إما انعكاسياً أو موجهاً بالغرائز، أما في الإنسان فتخضع وظائفه الحركية وتصرفاته للوعي والإدراك الموجه من قبل مساحة قشرة الدماغ الشاسعة.
6- تكوين الألفاظ المنطوقة يقع في الفص الجبهي: إن التحكم في اختيار وتكوين الكلمات استعداداً للنطق بها يظهره شكل 3، حيث تختار الألفاظ في منطقة التلفيف الزاوي ثم تكون الألفاظ أو الكلمات المنطوقة في منطقة (بروكا) في الفص الجبهي الواقعة أمام الجزء الأسفل من القشرة الحركية (Primary Motor Cortex ) التي تتحكم في الأعضاء المتعلقة بالنطق، وهذا يدل على أن مفتاح التحكم في الكلمات المنطوقة هو في الفص الجبهي، للمخ أي في الناصية، لذلك فليس كل الألفاظ التي ترد إلى الذهن تظهر على اللسان، وذلك لمرورها على مركز تكوين الكلمات في الناصية، لذا فالإنسان محاسب ومسئول عما ينطق به لسانه طالما يستطيع التحكم في اختيار الألفاظ وأعضاء النطق وعلى رأسها اللسان. وقد أشار النبي إلى هذه الحقيقة بقوله: " فأخذ بلسانه قال: كف عليك هذا........" الحديث.
7- التوجيه الإرادي للنظر في اتجاه محدد يقع في الفص الجبهي: وهناك أيضا في الفص الجبهي ما يماثل منطقة (بروكا) من تلفيف القشرة الحركية وهي منطقة تختص بتحريك العينين ومنطقة فوقها تختص بتحريك الرأس في حركة دائرية وكلا المنطقتين توجه وتركز النظر في اتجاه معين وفق حركة إرادية. وهاتان المنطقتان توجهان قشرة الحركة الأولية (Primary Motor Cortex ) لإدارة الرأس وتركيز العينين في اتجاه محدد. إذاً فالتوجيه الإرادي للنظر يقع في الفص الجبهي أو الناصية، وهذا يتوافق مع ما أشار إليه النبي في حديث المؤاخذة على النظر المحرم للمرأة حين قال لعلى رضى الله عنه: " يا على لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة "( رواه الترمذي ج 5/101 وقال حسن غريب) وفي رواية قال:" النظرة الأولى لك والآخرة عليك " (رواه الطحاوي في شرح معاني الأثار ج 3/15 وهو حديث حسن) فالأولى فجائية ليس فيها تركيز وتوجيه، وإنما تقع المؤاخذة على النظرة الثانية الإرادية المحددة والموجهة.
8- التحكم الإرادي لحركة جميع أجزاء الجسد يقع في الفص الجبهي: أثبتت الأبحاث أن المنطقة الحركية الإضافية والمنطقة قبل الحركية تعملان باعتبارهما منشئتين للوظيفة الحركية، وتخزنان برامج الحركة التي تعتبر جزءا من التخطيط الخاص بتحكم مجموعة معينة من العضلات على القيام بحركة طوعية، لذلك فإنه يمكن الاستنتاج أنه كما هو الحال فيما يتعلق بالنطق واختيار الألفاظ وتحريك الرأس والعينين ؛ فإن قشرة الفص الجبهي أو الناصية هي المختصة بالتحكم الواعي للقيام بعمل طوعي أو عدم القيام به، مما يتطلب تحريك بعض أو كل أجزاء الجسد.
9- التناسق بين حركة النطق وحركات الجسم يقع في الفص الجبهي: إن احتواء الفص الجبهي للمنطقة الحركية الإضافية والمنطقة الحركية الأولية تشير إلى التناظر ما بين منطقة (بروكا) المتعلقة بالسيطرة على النطق من جهة، ومناطق تحريك الرأس والعينين وبين المنطقة ما قبل
الحركية المتعلقة بالسيطرة على الوظائف الحركية الأخرى، تؤدى إلى التصرفات الطوعية لسائر أعضاء الجسد مما يؤكد أن التناسق بين حركة النطق والنظر وحركات الجسم المختلفة يقع في الفص الجبهي أو الناصية شكل 4.
10- قشرة المخ في الفص الجبهي تتحكم في سلوك الإنسان: ولتأكيد هذا الاستنتاج نجد أن عدم وجود معظم قشرة الفص الجبهي في الحيوانات يظهر أثره في السلوك الحيواني، فحاسة الشم تثير السلوك الجنسي مباشرة، وكذلك السلوك الغذائي والنشاط الحركي المتعلق بهذه الوظائف، أما بالنسبة للإنسان فلابد من اعتبارات ومعلومات تم تخزينها وترسيخها مسبقاً في وظائف قشرة الدماغ، خاصة في مناطق الربط، بالإضافة إلى الوظائف الحوفية الغرائزية، قبل أن يقع السلوك الجنسي أو الغذائي أو أي سلوك أخر، مع ما يتبع ذلك من القيام بأعمال حركية أخرى بالأيدي أو الأرجل أو أي أجزاء أخرى من الجسم كحركة العين للرؤية، وحركة اللسان بالنطق، وهكذا يكون الخيار بالقيام بعمل أو عدم القيام به مركوزاً في مناطق الحركة الإرادية في الفص الجبهي ذو المساحة الشاسعة من قشرة الدماغ، خاصة في مناطق الربط فيه.
11- السلوك الغريزي والسلوك المكتسب: يمكننا بعبارات تواكب عصر الحاسوب وصف السلوك الغريزى بالبرامج الداخلية التكوين التي تحركها منبهات محددة، ووصف السلوك المكتسب بالبرامج الخارجية للحاسوب.
ويتمثل السلوك الغريزي بوضوح في سلوك الحيوانات ؛ حيث تثير – كما ورد سابقاً – حاسة الشم السلوك الجنسي مباشرة وكذلك السلوك الغذائي والنشاط الحركي المتعلق بهذه الوظائف. والدليل على ذلك كبر حجم قشرة الدماغ الحوفية (Limic cortex ) مقارنة بقشرة المخ الحديثة ( New cortx ) في جميع الحيوانات السفلي حيث تمثل القشرة الحوفية الأجزاء من قشرة المخ وهذا يثبت لنا أن التحكم في الوظائف لأعضاء جسم الحيوان يكون إما انعكاسياً أو موجهاً بالغرائز إلى درجة كبيرة. هذا وقد أثبتت التجارب أن الدافع لسلوك الحيوان هو غريزي أو فطري بناء على معلومات مركوزة محددة في قشرة الدماغ الحوفية وقد تؤثر عليه بعض التجارب المكتسبة من البيئة وقد وجد بعض الباحثين أن الفئران التي تمت تنشئتها في ظلام تام منذ ولادتها استطاعت أن تتبين حجم الأشكال وبريقها بالقدر نفسه من الدقة التي ظهرت لدى فئران تم تنشئتها في ظروف طبيعية (مجلة العلوم العدد 8،9 (1995م) ص 43،44) لذلك فإن المعلومات الغريزية هي العامل الرئيسي الموجه للسلوك الحيواني.
 أما السلوك المكتسب فهو السلوك الذي توجهه معلومات مكتسبة من البيئة، تركزت في قشرة مخ الحيوان. وإذا نظرنا إلى قشرة المخ الإنساني نجد أن مناطق الربط فيها ( Association ) لما لها من سيطرة، ولما تقوم به في توظيف المعلومات الحسية، لتؤدى دوراً بارزاً ومهماً في إمكانات التعلم الهائلة لدى البشر، فهناك كم هائل من المعلومات المبرمجة والتي يتم اكتسابها إما من خلال الخبرات العشوائية المستمدة من البيئة، أو من خلال عملية التربية والبرامج الدراسية، وتعتبر مناطق الربط الجدارية الصدغية القذالية التي توجد غالباً في نصف المخ السائد (Categoric or domenant hemisphere) هي المختصة بعملية تعلم اللغات عبر حواس السمع والبصر ثم تنتقل هذه المعلومات المكتسبة من الألفاظ وسائر العلاقات المرئية من خلال التلفيف الزاوي (The angular gyrus) والحزمة المقوسة ( Arcuate fasciculus ) التي تقع تحته إلى منطقة (بروكا) في الفص الجبهي، والتي تقوم بتكوين الكلمات المنطوقة كما تنتقل الاستجابة النطقية عن طريق الحزمة المقوسة من منطقة (فيرنيكى) (Werniks area) الواقعة في أعلى التلفيف الصدغي والمسئولة عن فهم المعلومات السمعية والمرئية إلى منطقة (بروكا) أيضا الواقعة أمام الجزء الأسفل من القشرة الحركية والتي تتحكم في الأعضاء المتعلقة بالنطق (انظر شكل 3) وهكذا تنتقل جميع المعلومات المكتسبة والمفهومة بالتعلم بواسطة السمع والبصر إلى مركز التحكم النهائي في الفص الجبهي لاستخدامها في النطق بالألفاظ المناسبة.
 هذا وقد تمت دراسة منطقة المهارات الإدراكية (Congnitive Skills) ذات العلاقة بوظائف الرؤية والسمع وغيرها من الوظائف الحسية، وثبت ارتباطها وتأثيرها على الوظائف الحركية. وقد أولت البرامج التعليمية هذه الحقيقة اهتماماً كبيراً في تركيزها على تطوير المهارات الإدراكية والحركية معاً. كل ذلك يثبت أن السلوك الإنساني ليس كالسلوك الحيواني توجهه الغرائز فقط وإنما تسيطر عليه وتوجهه المعلومات والخبرات المكتسبة من البيئة لذلك فالسلوك الإنساني المكتسب قابل للتغيير والتطوير عكس السلوك الحيواني الغريزي. ويمتلك الإنسان المقدرة لإحداث هذا التغيير في سلوكه بناءاً على خصوصيته في اختيار معلوماته واكتساب خبراته وضبط سلوكه وفق معايير وقيم مكتسبة، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، وقد أثبت القرآن الكريم هذه الحقيقة وبين أنها قانون عام وسنة مضطردة في قوله تعالى:( إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) الرعد 11.
كما أشار القرآن الكريم إلى أن الأشياء المسموعة والمبصرة والمدركة بالفؤاد تصب كلها في محل التحكم في السلوك واتخاذ القرار التي تنبني عليها المسئولية في قوله تعالى:( إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولـَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) [الإسراء آية 36] وهذا يتوافق مع ما سبق من حقائق في هذا الموضوع.
إن الإنسان يكتسب في بيئته المعلومات التي توجه سلوكه وتصرفاته إما من برامج التربية والتعليم القائمة على الدين والأخلاق فينشأ الفرد بسلوك قويم وتصرفات رشيدة وفق صحة هذا الدين ورسوخ قيمه وأخلاقه في قشرة دماغه بغير معارضة لما فطر عليه من معلومات بدهية مركوزة فيه، أو يتلقى الإنسان معلوماته من مصادر لا تعتمد في برامجها النواحي الدينية والأخلاقية، فينشأ الفرد على اتباع الهوى والغرائز تحت شعار الحرية الشخصية، وأحياناً يتصرف هذا الإنسان بسلوك أدنى وأضل من سلوك الحيوان، وقد أثبتت الدراسات هذه الحقيقة فقد وجد أن المجتمعات التي تهمل فيها برامج التربية والتعليم الناحية الروحية ولا تهتم بالقيم الدينية اللازمة لتوجيه سلوك الإنسان ينشأ الفرد فيها وقد سيطرت ووجهت سلوكه الأهواء والغرائز والقيم المادية دون واعظ من الفطرة التي جبلت على الخير أو دين يهدى إلى الرشد.
هذا ويتوافق مفهوم السلوك الغريزي والسلوك المكتسب عند الإنسان - كما أثبته العلم - مع نصوص القرآن والسنة التي أشارت إلى هذه الحقائق منذ أربعة عشر قرناً من الزمان. فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وميزه بالعقل والإدراك وأودع فيه - بجانب غرائزه الحيوانية - قدراً من المعلومات الأساسية الهامة وسماها الفطرة، أو فطرة الإيمان كما قال تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) { الروم آية 30 }. وكما قال النبي (صلى الله علية وسلم) " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه... " (رواه البخاري) الحديث، وكقوله: " أصبحنا على فطرة الإيمان.... " الحديث، فالفطرة على الإيمان تمثل البرنامج الداخلي للدماغ التي تكون قاعدة ثابتة وراسخة من المعلومات المركوزة في نفس الإنسان، تجعله دائماً على استعداد للإيمان وطاعة الله، ما لم يشوش عليها أو تطمسها معلومات أخرى - مضادة لها أو متعارضة معها - مكتسبة من البيئة المحيطة، وهذا ما أشار إليه النبي في الحديث: " فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "، وأشار إليه في الحديث الآخر: " إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (فاجتالتهم: أي استخفوهم فذهبوا بهم وازالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل) عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطاناً "( رواه مسلم / حديث 63) الحديث.
بينما تمثل التعاليم التي أوحى الله بها إلى الأنبياء لتبليغها للناس برامج مكتسبة لضبط وتوجيه سلوكهم وهي التي فيها التكليف والاختيار وعليه الجزاء. قال تعالى: ( لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَـَكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ) [ المائدة أية 48].
إذن يمكننا أن نقول: بأن الوحي - الذي لم يتبدل ولم يتغير -والمتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، هو بمثابة برنامج مكتسب ومنهاج للتحكم أو السيطرة على تصرفات البشر أفراداً كانوا أو جماعة وأمماً، بما يحقق مصالحهم العاجلة والآجلة، وهذا ما يتوافق ومفهوم الآية الكريمة:(إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) فكلمة الأمانة تعنى قبول التكليف بطاعة الله على أساس من حرية الاختيار المركوز في العقل الإنساني، حيث إن الإنسان هو المخلوق الذي وهبه الله هذه الخاصية في قدرته على النظر والتفكير والتأمل واتخاذ القرار وتحمل المسئولية عن جميع ما يقوم به من سلوك وتصرف - خيراً كان أم شراً - بناء على برنامج أساس مركوز في النفس الإنسانية وبرنامج آخر مكتسب لذلك يتوجب علينا نحن المسلمين بما نملك من قواعد الدين الصحيح في العقيدة والقيم والأخلاق، وبما نملك من رصيد كبير في التربية والتزكية والتي تشكل منهجاً متكاملاً يجمع شرائع الأنبياء جميعاً، منزلة من عند الله الخالق العليم الخبير تضبط سلوك الإنسان بالعدل وتوجه تصرفاته بالحكمة وتهديه بالحق إلى سواء السبيل، فتهذب غرائزه، وتحقق أمانيه ومصالحه، وتضفي على نفسه الرضا والطمأنينة، وتحميه من اليأس والقلق وجميع الآفات النفسية والجسدية. حري بنا نحن المسلمين أن نقدم لأنفسنا وللبشرية الشاردة ميثاقاً سلوكياً شاملاً لكافة أوجه الحياة، متمثلاً في تأصيل برامج تعليمية وتربوية ليس فقط لتنمية المهارات الإدراكية، والنفس حركية لكن لاتخاذ القرار الأمين الصالح في جميع التصرفات من الأقوال والأفعال محققين قول الله تعالى:(وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ)[الاحزاب آية 4].
الأدلة العلمية في صحة هذه الحقائق:
أ‌- فصل أو تلف الفص الجبهي يؤدى إلى اضطراب الشخصية في الأقوال والأفعال: أثبتت الأدلة الإكلينيكية (السريرية) أن تلف الفص الجبهي أو فصله يؤدى إلى فقدان المريض التحكم في سلوكه الاجتماعي، والمقدرة على استعمال الألفاظ، مع تغييرات كبيرة في معالم الشخصية، حيث تنقص قدرته في التركيز وروح المبادرة والتحمل، وعلى حل المشكلات التي تحتاج لقدرة عقلية متميزة، وتتأثر قدرة المريض على الحكم على موقفه فيفقد الشعور بالمسئولية نحو نفسه كما تحدث بعض التغيرات العاطفية فيبدى المريض علامات الابتهاج والرضا عن النفس كما يفقد اهتمامه بمظهره الاجتماعي وقد يعانى من هبوط في المعايير الأخلاقية. وقد أخذ هذا كدليل قوي على وظيفة قشرة ما قبل الجبهة في التحكم في الجوانب الأكثر تعقيداً في السلوك البشرى.
ب‌- قياس تدفق الدم في قشرة المخ: أصبح من الممكن في السنوات القليلة الماضية قياس تدفق الدم في قشرة المخ أو أجزاء أخرى منه عن طريق النظائر المشعة والرنين المغناطيسى الوظيفي وقد استخدمت هذه الوسائل في دراسة الوظائف العليا للدماغ خاصة في مجال وظائف أجزاء الدماغ المختصة باللغة التي هي من خصائص الإنسان، وقد تبين من هذه الدراسات: أن الفص الجبهي يزداد تدفق الدم في عدة مراكز منه عند التفكر في معاني الكلمات، وعند النطق بها، بينما يزداد النشاط في مناطق الإبصار في مؤخرة الدماغ عند التعرض إلى بعض الحروف كشكل كلمة لا معنى لها (شكل 5 ).

الاستنتاج:
بناء على ما سبق نصل إلى الاستنتاج بأن التحكم في الحركات والأفعال الإرادية تكمن في الفص الجبهي وأن البرامج الحركية تزود بها القشرة الحركية من الفص الجبهي من خلال القشرة قبل الحركية. ومن المعروف أن قشرة الدماغ هي المكان الذي يقوم بجميع الوظائف الواعية أو الإرادية الحركية وعليه فإنه يمكن القول باطمئنان: إن قشرة الفص الجبهي هي المسؤولة عن إرسال القرار الحركي الإرادي لأجزاء الجسم. بما في ذلك حركة اللسان بنطق الألفاظ، وحركة الرأس والعينين لتركيز النظر في اتجاه وغرض محدد، بناء على ما ترسخ فيها من معلومات مسبقة والتي تتمثل في فطرة الله أو فطرة الإيمان، وما اكتسبته من معلومات خارجية أخرى لتوجيه وضبط السلوك والتصرفات. لذلك يمكن أن نقول: إن حمل أمانة التكليف أو حرية الاختيار للأقوال والأفعال تكمن في الفص الجبهي للمخ أو الناصية والله أعلم.
وجه الإعجاز:
أشار القرآن الكريم إلى أن ملاك أمر دواب الأرض كلها بما فيها الإنسان ومكان تسيير شئونها وقيادتها يكمن في ناصيتها في قوله تعالى: (ما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها) ووصف الله سبحانه ناصية الإنسان بالكذب والخطأ ويتبع ذلك لزوماً وصفها بصفات الصدق والصواب وهذا الوصف وصف حقيقي للناصية بصفات سلوكية في قوله تعالى (ناصية كاذبة خاطئة) وقد ثبت في هذا البحث ان الفص الجبهي للدماغ يقبع داخل عظام ناصية الإنسان او مقدم جبهته تقع في مراكز التحكم في القيام بالحركات والأعمال الطوعية واختيار ونطق الكلمات، ومركز توجيه ونطق النظر في اتجاه مقصود ومحدد. كما ان مساحة قشرة الفص الجبهي تمثل المساحة الكبر من قشرة الدماغ كله، والتي تؤدي دوراً حيويًا بارزاً في التحكم الإرادي من خلال المعلومات والخبرات المختزنة فيها، بعد تحليلها واختزانها لمركز التفكير والعقل، والذي ثبت وجوده أيضاً في الفص الجبهي، واستطاع العلماء تصويره وتحديد مكانه. وبناء على ذلك يمكننا القول باطمئنان: إن القرآن الكريم أشار إلى دور الفص الجبهي في الدماغ الذي يقع داخل الناصية في توجيه السلوك الإنساني، بالتحكم في الأقوال والأعمال من خلال وجود مراكز تكوين الألفاظ والتحكم في الحركات المتعلقة بالنطق والنظر وجميع الحركات الإرادية لكل أجزاء الجسم، ووجود مساحة شاسعة من قشرة الدماغ في هذا الفص تتيح للإنسان تحصيل وتحليل المعلومات المكتسبة مما يحقق له خبرة كبيرة في اختيار الأقوال والأفعال وتوجيه السلوك بمساعدة مركز العقل والإدراك الموجود في هذا الفص، لذلك يمكن ان يشار إلى قشرة الفص الجبهي – لما فيها من هذه المراكز والإمكانات – بأنها المنطقة المسؤولة عما يصدر من الخطأ والصواب والصدق والكذب، وهذا الاستنتاج يتوافق مع نصوص القران والسنة التي أشارت بوضوح لهذا الوظائف للفص الجبهي للدماغ الكائن خلف الجبهة أو الناصية، وهو ما لم يكن معروفاً للعلماء في ذلك الزمان، ولم تكتشف هذه الحقائق ألا النصف الثاني من هذا القرن بعد التقدم الهائل في الأجهزة والدراسات العميقة في علم وظائف الأعضاء ووظائف الفص الجبهي وملفات الدماغ... اليس هذا دليلا اضافيا على ان محمد صلى الله عليه و سلم رسول من عند الله لا ينطبق الا بنور الله ووحيه، قال تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ. إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ. عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىَ ) (النجم 3-5).

المراجع:
1- القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الجامع لاحكام القرآن دار إحياء التراث.
2- ابن الجوزي الفرج بن عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي، زاد المسير في علم التفسير (1404-1984م) ط1 المكتب الإسلامي - بيروت.
3- أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي تفسير البحر المحيط (1403- 1983)ط2 دار الفكر - بيروت.
4- الطبرى (أبو جعفر محمد بن جرير جامع البيان عن تأويل آي القرآن (1405-1984)دار الفكر بيروت.
5- الشوكانى محمد بن على فتح القدير 1983م دار الفكر - بيروت.
6- عبد الرحمن بن ناصر السعدى تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1404 هـ الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد – الرياض.
7- ابن كثير (أبو الفدا إسماعيل بن كثير ) تفسير القرآن العظيم دار المعرفة – بيروت